كتاب: إحكام الأحكام شرح عمدة الأحكام

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: إحكام الأحكام شرح عمدة الأحكام



الوجه الثالث: استعمل الفقهاء الحديث عاما فيما يوجب الطهارة فإذا حمل الحديث عليه- أعني قوله: «إذا أحدث»- جمع أنواع النواقض على مقتضى هذا الاستعمال لكن أبو هريرة قد فسر الحدث في بعض الأحاديث- لما سئل عنه- بأخص من هذا الاصطلاح وهو الريح إما بصوت أو بغير صوت فقيل له: يا أبا هريرة ما الحدث؟ فقال: فساء أو ضراط ولعله قامت له قرائن حالية اقتضت هذا التخصيص.
الوجه الرابع: استدل بهذا الحديث على أن الوضوء لا يجب لكل صلاة ووجه الاستدلال به: أنه صلى الله عليه وسلم نفى القبول ممتدا إلى غاية الوضوء وما بعد الغاية مخالفة لما قبلها فيقتضي ذلك قبول الصلاة بعد الوضوء مطلقا وتدخل تحته الصلاة الثانية قبل الوضوء لها ثانيا.
3- عن عبد الله بن عمرو بن العاص وأبي هريرة وعائشة رضي الله عنهم قالوا: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ويل للأعقاب من النار».
الحديث فيه دليل على وجوب تعميم الأعضاء بالمطهر وأن ترك البعض منها غير مجزئ ونصه إنما هو في الأعقاب وسبب التخصيص: أنه ورد على سبب وهو أنه صلى الله عليه وسلم رأى قوما وأعقابهم تلوح والألف واللام يحتمل أن تكون للعهد والمراد: الأعقاب التي رآها كذلك لم يمسها الماء ويحتمل أن لا تخص بتلك الأعقاب التي رآها كذلك وتكون الأعقاب التي صفتها هذه الصفة أي التي لا تعمم بالمطهر ولا يجوز أن تكون الألف واللام للعموم المطلق.
وقد ورد في بعض الروايات رآنا ونحن نمسح على أرجلنا فقال: «ويل للأعقاب من النار» فاستدل به على أن مسح الأرجل غير مجزئ وهو عندي ليس بجيد لأنه قد فسر في الرواية الأخرى أن الأعقاب كانت تلوح لم يمسها الماء ولا شك أن هذا موجب للوعيد بالاتفاق.
والذين استدلوا على أن المسح غير مجزئ إنما اعتبروا لفظ هذه الرواية فقط وقد رتب فيها الوعيد على مسمى المسح وليس فيها ترك بعض العضو والصواب- إذا جمعت طرق الحديث-: أن يستدل بعضها على بعض ويجمع ما يمكن جمعه فيه يظهر المراد والله أعلم.
ويستدل بالحديث على أن العقب محل للتطهير فيبطل قول من يكتفي بالتطهير فيما دون ذلك.
4- عن أبي هريرة رضي الله عنه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إذا توضأ أحدكم فليجعل في أنفه ماء ثم لينتثر ومن استجمر فليوتر وإذا استيقظ أحدكم من نومه فليغسل يديه قبل أن يدخلهما في الإناء ثلاثا فإن أحدكم لا يدري أين باتت يده».
وفي لفظ لمسلم: «فليستنشق بمنخريه من الماء».
وفي لفظ: «من توضأ فليستنشق».
فيه مسائل:
الأولى: في هذه الرواية: «فليجعل في أنفه» ولم يقل ماء وهو مبين في غيرها وتركه لدلالة الكلام عليه.
الثانية: تمسك به من يرى وجوب الاستنشاق وهو مذهب أحمد ومذهب الشافعي ومالك: عدم الوجوب وحملا الأمر على الندب بدلالة ما جاء في الحديث من قوله صلى الله عليه وسلم للأعرابي: «توضأ كما أمرك الله» فأحاله على الآية وليس فيها ذكر الاستنشاق.
الثالثة: المعروف أن الاستنشاق جذب الماء إلى الأنف والاستنثار دفعه للخروج ومن الناس من جعل الاستنثار لفظا يدل على الاستنشاق الذي هو الجذب وأخذه من النثرة وهي طرف الأنف والاستفعال منها يدخل تحته الجذب والدفع معا والصحيح: هو الأول لأنه قد جمع بينهما في حديث واحد يقتضي التغاير.
الرابعة: قوله صلى الله عليه وسلم: «ومن استجمر فليوتر» الظاهر: أن المراد به: استعمال الأحجار في الاستطابة وإيتار فيها بالثلاث واجب عند الشافعي فإن الواجب عنده- رحمه الله- في الاستجمار أمران: أحدهما: إزالة العين والثاني: استيفاء ثلاث مسحات وظاهر الأمر الوجوب لكن هذا الحديث لا يدل على الإيثار بالثلاث فيؤخذ من حديث آخر.
وقد حمل بعض الناس الاستجمار على استعمال البخور للتطيب فإنه يقال فيه: تجمر واستجمر فبكون الأمر للندب على هذا والظاهر: هو الأول أعني أن المراد: هو استعمال الأحجار.
الخامسة: ذهب بعضهم إلى وجوب غسل اليدين قبل إدخالهما في الإناء في ابتداء الوضوء عند الاستيقاظ من النوم لظاهر الأمر ولا يفرق هؤلاء بين نوم الليل والنهار لإطلاق قوله صلى الله عليه وسلم: «إذا استيقظ من نومه».
وذهب أحمد إلى وجوب ذلك من نوم الليل دون نوم النهار لقوله صلى الله عليه وسلم: «أين باتت يده؟» والمبيت يكون بالليل.
وذهب غيرهم إلى عدم الوجوب مطلقا وهو مذهب مالك والشافعي والأمر محمول على الندب.
واستدل على ذلك بوجهين أحدهما: ما ذكرناه من حديث الأعرابي والثاني: أن الأمر- وإن كان ظاهره الوجوب- إلا أنه يصرف عن الظواهر لقرينة ودليلة وقد دل الدليل وقامت القرينة هاهنا فإنه صلى الله عليه وسلم علل بأمر يقتضي الشك وهو قوله: «فإنه لا يدري أين باتت يده؟» والقواعد تقتضي أن الشك لا يقتضي وجوبا في الحكم إذا كان الأصل المستصحب على خلافه موجودا والأصل: الطهارة في اليد فلتستصحب. وفيه احتراز عن مسألة الصيد.
السادسة: قيل: إن سبب هذا الأمر: أنهم كانوا يستنجون بالأحجار فربما وقعت اليد على المحل وهو عرق فتنجست فإذ وضعت في الماء نجسته لأن الماء المذكور في الحديث: هو ما يكون في الأواني التي يتوضأ منها والغالب عليها القلة وقيل: إن الإنسان لا يخلو من حك بثرة في جسمه أو مصادفة حيوان ذي دم فيقتله فيتعلق دمه بيده.
السابعة: الذين ذهبوا إلى أن الأمر للاستحباب: استحبوا غسل اليد قبل إدخالها في الإناء في ابتداء الوضوء مطلقان سواء قام من النوم أم لا ولهم فيه مأخذان أحدهما: أن ذلك: وارد في صفة وضوء النبي صلى الله عليه وسلم من غير تعرض لسبق نوم والثاني: أن المعنى الذي علل به في الحديث- وهو جولان اليد موجود في حال اليقظة فيعم الحكم لعموم علته.
الثامنة: فرق أصحاب الشافعي أو من فرق منهم بين حال المستيقظ من النوم وغير المستيقظ فقالوا في المستيقظ من النوم: يكره أن يغمس يده في الإناء قبل غسلها ثلاثا وفي غير المستيقظ من النوم: يستحب له غسلها قبل إدخالها في الإناء.
وليعلم الفرق بين قولنا يستحب فعل كذا وبين قولنا يكره تركه فلا تلازم بينهما: فقد يكون الشيء مستحب الفعل ولا يكون مكروه الترك كصلاة الضحى مثلا وكثير من النوافل.
فغسلها لغير المستيقظ من النوم قبل إدخالها الإناء: من المستحبات وترك غسلها للمستيقظ من النوم: من المكروهات وقد وردت صيغة النهي عن إدخالها في الإناء قبل الغسل في حق المستيقظ من النوم وذلك يقتضي الكراهة على أقل الدرجات وهذه التفرقة هي الأظهر.
التاسعة: استنبط من هذا الحديث: الفرق بين ورود الماء على النجاسة وورود النجاسة على الماء ووجه ذلك: أنه قد نهى عن إدخالها في الإناء قبل غسلها لاحتمال النجاسة وذلك.
يقتضي: أن ورود النجاسة على الماء مؤثر فيه وأمر بغسلها بإفراغ الماء عليها للتطهير وذلك يقتضي: أن ملاقاتها للماء على هذا الوجه غير مفسد له بمجرد الملاقاة وإلا لما حصل المقصود من التطهير.
العاشرة: أستنبط منه: أن الماء القليل ينجس بوقوع النجاسة فيه فإنه منع من إدخال اليد فيه لاحتمال النجاسة وذلك دليل على أن تيقنها مؤثر فيه وإلا لما اقتضى احتمال النجاسة المنع.
وفيه نظر عندي لأن مقتضى الحديث: أن ورود النجاسة على الماء مؤثر فيه ومطلق التأثير أعم من التأثير بالتنجيس.
ولا يلزم من ثبوت الأعم ثبوت الأخص المعين فإذا سلم الخصم أن الماء القليل بوقوع النجاسة فيه يكون مكروها فقد ثبت مطلق التأثير فلا يلزم منه ثبوت خصوص التأثير بالتنجيس.
وقد يورد عليه: أن الكراهة ثابتة عند التوهم فلا يكون أثر اليقين هو الكراهة.
ويجاب عنه: بأنه ثبت عند اليقين زيادة في رتبة الكراهة والله أعلم.
5- عن أبي هريرة رضي الله عنه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «لا يبولن أحدكم في الماء الدائم الذي لا يجري ثم يغتسل منه».
ولمسلم: «لا يغتسل أحدكم في الماء الدائم وهو جنب».
الكلام عليه من وجوه:
الأول: الماء الدائم هو الراكد وقوله: «الذي لا يجري» تأكيدا لمعنى الدائم.
وهذا الحديث مما يستدل به أصحاب أبي حنيفة على تنجيس الماء الراكد وإن كان أكثر من قلتين فإن الصيغة صيغة عموم.
وأصحاب الشافعي: يخصون هذا العموم ويحملون النهي على ما دون القلتين ويقولون بعدم تنجيس القلتين- فما زاد- إلا بالتغير: مأخوذ من حديث القلتين فيحمل هذا الحديث.
العام في النهي على ما دون القلتين جمعا بين الحديثين فإن حديث القلتين يقتضي عدم تنجيس القلتين فما فوقهما وذلك أخص من مقتضى الحديث العام الذي ذكرناه والخاص مقدم على العام.
ولأحمد طريقة أخرى: وهي الفرق بين بول الآدمي وما في معناه من عذرته المائعة وغير ذلك من النجاسات.
فأما بول الآدمي وما في معناه: فينجس الماء وإن كان أكثر من قلتين وأما غيره من النجاسات: فتعتبر فيه القلتان وكأنه رأى الخبث المذكور في حديث القلتين عام بالنسبة إلى الأنجاس وهذا الحديث خاص بالنسبة إلى بول الآدمي فيقدم الخاص على العام بالنسبة إلى النجاسات الواقعة في الماء الكثير ويخرج بول الآدمي وما في معناه من جملة النجاسات الواقعة في القلتين بخصوصه فينجس الماء دون غيره من النجاسات ويلحق بالبول المنصوص عليه: ما يعلم أنه في معناه.
واعلم: أن هذا الحديث لابد من إخراجه عن ظاهره بالتخصيص أو التقييد لأن الاتفاق واقع على أن الماء المستبحر الكثير جدا: لا تؤثر فيه النجاسة والاتفاق واقع على أن الماء إذا غيرته النجاسة: امتنع استعماله.
فمالك- رحمه الله- إذا حمل النهي على الكراهة- لاعتقاده أن الماء لا ينجس بالتغير- لابد أن يخرج عنه صورة التغير بالنجاسة أعني عن الحكم بالكراهية فإن الحكم ثم: التحريم فإذا لابد من الخروج عن الظاهر عند الكل.
فلأصحاب أبي حنيفة أن يقولوا: خرج عنه المستبحر الكثير جدا بالاجماع فيبقى ما عداه على حكم النص فيدخل تحته ما زاد على القلتين.
ويقول أصحاب الشافعي: خرج الكثير المستبحر بالإجماع الذي ذكرتموه وخرج القلتان فما زاد بمقتضى حديث القلتين فيبقى ما نقص عن القلتين داخلا تحت مقتضى الحديث.
ويقول من نصر قول أحمد المذكور: خرج ما ذكرتموه وبقي ما دون القلتين داخلا تحت النص إلا أن ما زاد على القلتين مقتضى حديث القلتين فيه عام في الأنجاس فيخص ببول الآدمي.
ولمخالفهم أن يقول: قد علمنا جزما أن هذا النهي إنما هو لمعنى في النجاسة وعدم التقرب إلى الله بما خالطها وهذا المعنى يستوي فيه سائر الأنجاس ولا يتجه تخصيص بول الآدمي منها بالنسبة إلى هذا المعنى فإن المناسب لهذا المعنى- أعني التنزه عن الأقذار- أن يكون ما هو أشد استقذارا أوقع في هذا المعنى وأنسب له وليس بول الآدمي بأقذر من سائر النجاسات بل قد يساويه غيره أو يرجح عليه فلا يبقى لتخصيصه دون غيره بالنسبة إلى المنع معنى فيحمل.
الحديث على أن ذكر البول ورد تنبيها على غيره مما يشاركه في معناه من الاستقذار والوقوف على مجرد الظاهر هاهنا- مع وضوح المعنى وشموله لسائر النجاسات- ظاهرية محضة.
وأما مالك رحمه الله تعالى: فإذا حمل النهي على الكراهية يستمر حكم الحديث في القليل والكثير غير المستثني بالاتفاق: (وهو المستبحر) مع حصول الإجماع على تحريم الاغتسال بعد تغير الماء بالبول فهذا يلتفت إلى حمل اللفظ الواحد إلى معنيين مختلفين وهي مسألة أصولية فإن جعلنا النهي للتحريم: كان استعماله في الكراهة والتحريم استعمال اللفظ الواحد في حقيقته ومجازه والأكثرون على منعه والله أعلم.